وما معنى حينئذٍ أن السلف لم يفهموا معنى ينزل الله في كل ليلة في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا؟ من يقول أن السلف لم يفهموا هذا؟ السلف فهموا وآمنوا كما قال تعالى: (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))
وجعله من باب قول العرب: فلان قد أيفعت لداته ، أي أيفع هو فكني بإيفاع لداته عن إيفاعه. وقول رقيقة بنت صيفي في حديث سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته ، أي ويكون معهم الطيب الطاهر يعني النبيء صلى الله عليه وسلم. وتبعه على ذلك ابن المنير في الانتصاف. وبعض العلماء يقول: هو كقولك ليس لأخي زيد أخ ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخا [ ص: 47] لأخيه فلما نفيت أن يكون لأخيه أخ فقد نفيت أن يكون لزيد أخ ، ولا ينبغي التعويل على هذا لما في ذلك من التكلف والإبهام وكلاهما مما ينبو عنه المقام. وقد شمل نفي المماثلة إبطال ما نسبوا لله البنات وهو مناسبة وقوعه عقب قوله: جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية. وحديث سقيا عبد المطلب ، أي خبر استسقائه لقريش أن رقيقة بنت أبي صيفي قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأدقت العظم ، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف: ( يا معشر قريش ، إن هذا النبيء المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما أبيض أوطف الأهداب سهل الخدين أشم العرنين فليخلص هو وولده ، ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته وليهبط إليه من كل بطن رجل فليشنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمنوا فعثتم ما شئتم) إلخ.
وفقنا الله وإياكم للعمل الموصل لمرضاته. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية: الله -جل وعلا- يرى كل مرئي، سواءٌ كان ذلك الشيء صغيرًا أو كبيرًا، خفيًا أم غير خفي، فلا تغيب عنه غائبة -جل وعلا- في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما، ولا تخفى عليه خافية، يبصر ويرى كل شيء -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى- لموسى وأخيه هارون: ( لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]. ففي الآية الكريمة: إثبات صفة السمع والبصر له جل شأنه، إثباتًا يليق بجلاله وعظمته، وهما من صفات الكمال. وقال لنبيه -عليه السلام- ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الشُّعَرَاء: 218-220]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أي حين تقوم إلى الصلاة، وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت. والله -عز وجل- مطلع على أحوال رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال -تعالى-: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطُّور: 48]، قال ابن كثير -رحمه الله- أي: " اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس ". والله بصير بعمل كل عامل، بصير بعمل عباده المؤمنين، قال -تعالى-: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البَقَرَة: 110]، قال ابن جرير -رحمه الله-: " هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرًّا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها، فلا يخفى عليه شيء من الأحوال والأقوال والحركات والسكنات ".