قال الامام الحافظ ابن كثير: "وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(الأنبياء:27)، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه، وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا. قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلّي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلَّا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أي: إنّي أعلم بالمصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء، والصالحون والعُبَّاد. إلى هنا نصل إلى نهاية المقال الذي تناولنا فيه جواب سؤال من القائل اتجعل فيها من يفسد فيها وانتقلنا بعد أن تعرّفنا بالقائل إلى تفسير بقية الآية القرآنية التي تحدّثت عن الامر، لنختتم في توضيح سؤال الملائكة عن ذلك الأمر.
فهل يحق لمشرع لا يعرف حقيقة نفسه التي بين جنبيه أن يسمي مشرعا؟ هذه الروح التي أخفى الله تعالي مهيتها يقول في شأنها: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً". سورة الإسراء الآيه 85 – عندما كانت البشرية في ظهر أبيها آدم خاطبها الله فقال تعالي: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا" ومن الآية يظهر لنا أن الله قد أخذ علينا الميثاق ونحن في مرحلة الذر أن لا نشرك به وحذرنا حتي لا نقول يوم القيامة "إنا كنا عن هذا غافلين" سورة الأعراف 172. – ثم تكون مرحلة أخري وهي التي أخبرنا عنها النبي صلي الله عليه وسلم ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك, فينفخ فيه الروح, ويؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه وأجله وعمله, وشقي أو سعيد". أورده بن رجب ، في كتابه جامع العلوم و الحكم ، برقم 4. – فعندما نزل من بطن أمه بدأ العد التنازلي لعمر الإنسان وهذه هي مرحلة الحياة الدنيا.
فلو افترضنا أن الله قال سأخلق مخلوقاً جديداً في الأرض، لما تكلمت الملائكة. ولكن الذي جعلهم يتكلمون هو سماعهم لكلمة ( خليفة). أي كأنهم فهموا أن الله قال لهم سأجعل الأرض تحت رحمة مخلوق، أو سأسلم الأرض إلى يد مخلوق. ففهم الملائكة أن هذا المخلوق (الذي منحه الله هذه الصلاحية والسلطة) يستطيع أن يفعل بالأرض ما يشاء (يستطيع أن يُغيّر فيها إصلاحاً أو إفساداً). ولذلك رجّحوا أن الأرض سوف تفسد، ما دامت تحت رحمة مخلوق (يستطيع أن يتحكم ويتصرف بها). فهم يرون بالبديهة، أن الأرض لا تصلح إلا إذا كانت فقط تحت تصرف خالقها. وأحب أن أضيف عبارة رائعة منسوبة للمسيح ( إنجيل متى 19-17 لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله). فالملائكة لم يعترضوا على جعل مخلوق جديد في الأرض (مجرد مخلوق كغيره ممن سبقه من مخلوقات أرضية لا يستطيع أن يتصرف ويتحكم بالأرض) ، ولكنهم اعترضوا على جعل خليفة (أي على مخلوق يستطيع التصرف والتحكم بالأرض). وقد أجاد صاحب تفسير المنار وفصّل ووضّح (فليراجع تفسيره كما كتبه) [وأما الإنسان... يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها... يتصرف بمجموعه في الكون تصرفا لا حد له... وملكه الأرض... حتى غيّر شكل الأرض].