{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} وهذه الولاية، ولاية الدين، وميراث النبوة والعلم والعمل، ولهذا قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}. أي: عبدا صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك، والحاصل أنه سأل الله ولدا، ذكرا، صالحا، يبق بعد موته، ويكون وليا من بعده، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد، ومن رحمة الله بعبده، أن يرزقه ولدا صالحا، جامعا لمكارم الأخلاق ومحامد الشيم. فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}.
في قصص الأنبياء والصالحين المبثوثة في القرآن الكريم يجد المتدبر الكثير من الأدعية والابتهالات التي تترجم لواعج الأشواق إلى ملكوت الرحمن وحنين الأرواح إلى مصدرها السامي، ومبعث قوتها. وإذا اقتفينا أثر النبي صلى الله عليه وسلم و اتبعنا سنته في الأدعية المأثورة وتأملنا معانيها ودروسها التربوية لوجدنا أثرها البالغ في صلاح أنفسنا واستقامة سلوكنا وشحذ طاقاتنا للعمل والبناء. ومن توفيق الله للعبد أن يوفقه لملازمة الدعاء في السراء والضراء، فالدعاء هو القوة الموجهة للعبادة والعمل الصالح، والدعاء فنٌّ من فنون التواصل الروحي تجد فيه النفوس المؤمنة الطمأنينة واليقين والأمل والقوة والسعادة، وكل من يلازم الدعاء يجد بركته وأثره ويجد قلبه ولسانه يردد مع زكريا عليه السلام" وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا". والدعاء وسيلة من وسائل التربية للنفس، ووسيلة من وسائل التربية للأبناء بالدعاء لهم بالهداية ، و ينبغي تربية الأبناء علي الدعاء وحفظ الأدعية المأثورة المرتبطة بتفاصيل الحياة وتعليمهم ملازمة الأدعية المأثورة التي تجعلهم على اتصال بالله في جميع شؤون حياتهم. والدعاء وسيلة لتعزيز أواصر الأخوة والمحبة وكسب القلوب وإظهار الود، وقد حببنا الخالق عز وجل بالدعاء ونهانا عن الاستكبار عن عبادة الدعاء مع الوعيد الشديد" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" وأكد لنا أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" " رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"
قال السعدي في تفسيره: { رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي: وهن وضعف، وإذا ضعف العظم، الذي هو عماد البدن، ضعف غيره، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} لأن الشيب دليل الضعف والكبر، ورسول الموت ورائده، ونذيره، فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى الله، لأنه يدل على التبري من الحول والقوة، وتعلق القلب بحول الله وقوته. اقرأ أيضا: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين".. ما الفرق بين الكتابة والإحصاء؟ (الشعراوي يجيب) { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة، بل لم تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا، ولم تزل ألطافك تتوالى علي، وإحسانك واصلا إلي، وهذا توسل إلى الله بإنعامه عليه، وإجابة دعواته السابقة، فسأل الذي أحسن سابقا، أن يتمم إحسانه لاحقا. { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أي: وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي، أن لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك، وظاهر هذا، أنه لم ير فيهم أحدا فيه لياقة للإمامة في الدين، وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلام ونصحه، وأن طلبه للولد، ليس كطلب غيره، قصده مجرد المصلحة الدنيوية، وإنما قصده مصلحة الدين، والخوف من ضياعه، ورأى غيره غير صالح لذلك، وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين، ومعدن الرسالة، ومظنة للخير، فدعا الله أن يرزقه ولدا، يقوم بالدين من بعده، واشتكى أن امرأته عاقر، أي ليست تلد أصلا وأنه قد بلغ من الكبر عتيا، أي: عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد.
﴿ وَلَم أَكُن بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤] - ماهر المعيقلي - YouTube