السؤال: سؤالي عن إشكالية الحديث: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً... فالذي يبدو لي من الحديث أن تحريم الظلم فعل اختياري من الله، الصورة للتوضيح فقط - تصوير shock - istock. حرمه على نفسه ولو شاء فعله، كما أنه لو شاء الكلام تكلم، ولو شاء عدمه لم يتكلم. وهذا يتعارض عندي مع عدل الله -تعالى-، فالظلم منه محال، والظلم ممتنع لغيره، فهو لا يظلم لكمال عدله، لا لعجز قدرته. بمعنى أني أستشكل قول الله: حرمت الظلم على نفسي. لأنه يبدو أن الظلم من الله كان ممكنا قبل تحريمه، وهذا محال، وهذا يتعارض مع كونه ممتنعا لغيره. يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. أرجو الرد، وتوضيح الإشكال. الإجابــة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقد سلك العلماء مسالك شتى في هذا الحديث وأشباهه، مما ورد فيه نفي الظلم عن الله -تعالى- فمنهم من قال إن الظلم ممتنع عقلا في حق الرب -تعالى-؛ لأن الظلم هو تصرف الإنسان فيما لا يملك، والكل ملك لله -تعالى- فتصرفه فيه كيف شاء لا يكون ظلما. ومنهم من نفى خلقه لأفعال العباد؛ ليتوصل بذلك إلى نفي الظلم عنه -تعالى- كما قالت المعتزلة. وتوسط جماعة من محققي العلماء، فقالوا بأن الظلم جائز عقلا، ولكن الله -تعالى- حرمه على نفسه أزلا؛ لكمال عدله، فهو ممتنع على الله -تعالى- لكونه حرمه على نفسه، لا لعدم قدرته عليه، وهو إنما حرمه على نفسه -تعالى- لاتصافه بصفات الكمال ولتنزهه عن أضدادها، وهي النقائص كلها، ولا شك في أن الظلم مما ينزه الله -تعالى- عنه؛ لكونه من النقائص التي لا تليق به تعالى.
ربما كان ومازال الدين/ الفكر الديني موضع استثمار/ استغلال من الملأ الأعلى/ الطبقة السياسية بما يخدم مصالحها واستمراريتها بربط كل الأمور بـ (القدر) أو إرادة إلهية لكن، متى كان للإله رسله من الأشرار؟ وما معنى الآخرة والثواب والعقاب فيها، إن كانت الأمور تخص الدنيا فقط؟ أم أنها سياسة خلط الحابل بالنابل وإضاعة التخوم؟. ربما كانت الدويلة الأموية أكثر جبرية، وربما كانت الصورة أكثر وضوحاً إبان محاكمة وصلب وتقطيع غيلان الدمشقي تـ١٠٦ه وهو حي، إذ قيل له (أرأيت ما فعل الله بك) فجاء رده حاسماً بالقول: (لعن الله من فعل بي ذلك) وربما ثمة مواقف ومواقف يطول شرحها.
يفضح الله الظالم المعتدي يوم القيامة على رؤوس الخالق؛ قال عليه الصلاة والسلام ( والله لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ أو شَاةً تَيْعَرُ). متوعدون بدخول النار وبئس المصير، قال صلى الله عليه وسلم ( إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) عباد الله.. للظلم صور كثيرة، وأنواع متعددة، فاعرفوها واحذروها. احذروا الشرك بالله تعالى؛ فإنه أظلم الظلم وغاية الخسران. واحذروا ظلم النفس بالذنوب والعصيان؛ بتضييع العبادات، والإغراق في المحرمات. اني حرمت الظلم على نفسي. واجتنبوا ظلم العباد بالغيبة والقذف والسباب؛ أو السخرية والتنابز بالألقاب، فإنه موصل إلى أليم العذاب. ومن الظلم المبين: تتبع عورات المسلمين، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، والاعتداء على حقوق الآخرين؛ فمن اقتطع ولو شيئا يسيرا منها فإنه يحمله على عاتقه يوم الدين، ويُطوَّق به عنقُه خزيا له بين العالمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" ومن الظلم: الغش في المعاملات، والمماطلة في رد الدّين، قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَطْل الغنيِّ ظلم " ومن عظيم الظلم والاعتداء: أكل مال الأيتام والضعفاء.
إنه الظلم يا عباد الله. حرمه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان شيئا يسيرا قال عليه الصلاة والسلام ( مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا ؟ فقال ( وإن قضيبا من أراك) عباد الله.. إن الظَّالِمُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يَهْدِيهِ، مَحْرُومٌ مِنَ الْفَلاَحِ أن يأتيَه، وما من ظالم إلا سيبتلى بأظلم منه يسلط عليه. قال تعالى (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظّالِمِينَ) [آل عمران: 57]، وقال عز وجل: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ) [البقرة: 258]، وقال سبحانه: (إِنَّه لَا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ) [الأنعام: 21] توعَّدَهم الله بسُوء المُنقلَبِ والعذاب، فإن الظالمَ ينتظرُ العقابَ، والمظلومَ ينتظرُ النصرَ ويرجو الثواب. قال عز وجل (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227]. نفوس دنيئة خبيثة، جبلت على الفساد، وانطوت على الحسد والأحقاد، يظلمون الناس بالليل والنهار، تذهب اللذات، وتبقى الحسرات والأوزار. يُحِيطُ الظلم بِصَاحِبِهِ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ حاله، تزُولُ بِهِ عنه النِّعَمُ، وَتَنْزِلُ بِهِ النِّقَمُ.
شرح الحديث 24 من الأربعين النووية: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي... )