وما ضعفوا أي عن عدوهم. وما استكانوا أي لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع; وأصلها " استكنوا " على افتعلوا; فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف. ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا; والأول أشبه بمعنى الآية. وقرئ " فما وهنوا وما ضعفوا " بإسكان الهاء والعين. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ | وكالة النيل للأخبار. وحكى الكسائي " ضعفوا " بفتح العين. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت ، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة ، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا ، وبالنصر على أعدائهم. وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها. يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ؟ فأجاب [ ص: 219] دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه ، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق ، وقوله الصدق. والله يحب الصابرين يعني الصابرين على الجهاد. وقرأ بعضهم " وما كان قولهم " بالرفع; جعل القول اسما لكان; فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان.
والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف - على هذا القول - على " قتل " جائز ، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب. وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم. وفيه وجهان: أحدهما أن يكون " قتل " واقعا على النبي وحده ، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله " قتل " ويكون في الكلام إضمار ، أي ومعه ربيون كثير; كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم ، أي ومعه جيش. وخرجت معي تجارة; أي ومعي. الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه; تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم ، وإنما قتلوا بعضهم. ويكون قوله فما وهنوا راجعا إلى من بقي منهم. قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل ، وقتل معه جماعة من أصحابه. وقرأ [ ص: 218] الكوفيون وابن عامر قاتل وهي قراءة ابن مسعود; واختارها أبو عبيد وقال. إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم; فقاتل أعم وأمدح. و " الربيون " بكسر الراء قراءة الجمهور. وقراءة علي - رضي الله عنه - بضمها. وابن عباس بفتحها; ثلاث لغات. والربيون الجماعات الكثيرة; عن مجاهد. وقتادة والضحاك وعكرمة ، واحدهم ربي بضم الراء وكسرها; منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها ، وهي الجماعة.
كذلك أيضًا: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ، ما قال: وهو يحب الصابرين؛ لأن اسم الجلالة مذكور قبل ذلك، فأظهره هنا، وكما عرفنا أن الإظهار في مقام يصح فيه الإضمار يكون لنُكتة بلاغية، فهنا يمكن أن يُقال: هذا لمزيد التفخيم والتعظيم لمحبته لهؤلاء من أهل الصبر، والثناء على هؤلاء بحُسن صبرهم، والإشعار بعلة الحكم وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين. والحكم المعلق على وصف -كما ذكرنا- مرارًا يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، يقوى بقوته، ويضعف بضعف هذا الوصف، فهنا وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ، فالصبر وصف، والحكم المرتب عليه هو محبة الله وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ، فبقدر ما يكون عند الإنسان من الصبر؛ يكون له من محبة الله ، فإذا ضعُف صبره؛ ضعُفت محبة الله له. هذه معاني كبار -أيها الأحبة-، يقولها الإنسان في حال العافية، ونسأل الله أن يشملنا وإياكم بعافيته، لكن إذا وقع البلاء، واستشعر الإنسان المرارة التي يتجرعها من الصبر، ففي هذه الحالة قد لا يتمالك، وينسى هذه المعاني والمفاهيم. فنسأل الله أن يربط على قلوبنا، وأن يُثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وفي هذا أيضًا تأكيد لهذه بالجُملة الاسمية وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ، فالجملة الاسمية تدل على الثبوت، فهذا أمر ثابت لهم.