الثالث: تيسير "جميع آيات القرآن": مكرُمَة من الله سبحانه لمن يعمل بالتقوى ، ويصدق في تلقيه القرآن بالعمل والإخلاص والصدق مع الله سبحانه، ويخلص في تدبره وتأمله ، فيصدقه الله بأن يفتح عليه ما يستغلق على عامة الناس ، وهو ما يُشعر به سياق قول الله سبحانه: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد/ 24. أما من لا يقصد إلا السمعة أو الرياء أو المماراة في تفهمه للقرآن، ويخلط عملا صالحا بآخر سيئا، وتشوب نيتَه بعضُ أغراض الدنيا وأعراضها، فمثله حري أيضا أن لا ييسره الله عليه. يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قال تعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:32]. ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر. والآيات في هذا كثيرة، تدل على أن من تدبر القرآن ، لكن بهذه النية، وهي طلب الهدى منه ؛ لا بد أن يصل إلى النتيجة، وهي تبين طريق الحق. أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض ، وليجادل بالباطل ، ولينصر قوله ؛ كما يوجد عند أهل البدع وأهل الزيغ ، فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله ؛ لأن الله تعالى يقول: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْعِلْمِ) [آل عمران: 7] ؛ على تقدير [أما] ؛ أي: وأما الراسخون في العلم؛ فـ ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران:7] ، وإذا قالوا هذا القول؛ فسيهتدون إلى بيان هذا المتشابه، ثم قال: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].
يقول القشيري رحمه الله: "يسّرنا قراءته على ألسنة الناس، ويسّرنا علمه على قلوب قوم ، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم ، وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته". انتهى من "لطائف الإشارات" (3/ 497). والخلاصة، أننا إذا فهمنا الآية الكريمة على أحد الأوجه السابقة ، كما فهمها العلماء، تبين لنا أنها لا تعارض إطلاقا حاجتنا إلى العلماء في تفسير كثير من الآيات الكريمات. والله أعلم.
فهناك عشرات الآلاف من الأطفال – أو أكثر – يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب ، ومنهم من ليسوا عربا ، ولا يفهمون معناه ، إلا أن الله يسره عليهم ، وهو ما لا وجود له في أي كتاب في العالم. فكيف يكون مثل ذلك صعبًا عسيرا ؟! فأقبل يا عبد الله على كتاب ربك ، بقلب مفتوح ، وصدر منشرح ، وهمة عالية ، وإيمان صادق ، وشوق إلى كلام رب العالمين ، وتعظيم لمنزلته ، وادع الله جل في علاه: أن ييسر لك تدبره وحفظه ، واسع في ذلك سعيا رشيدا ، والزم أحد شيوخه ، وابدأ في حفظه على يديه ، واستعن بالله ولا تعجز ، ودع عنك هذه الوساوس فإنها تمحق البركة وتذهب بالنعمة. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر. والله تعالى أعلم.
تأويل الآية: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [1] تكررت هذه الفقرة في سورة القمر؛ التي قال فيها تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، وقبل أن نحدِّد معناها، نودُّ أن نحدِّد معنى "التيسير" و"الذكر" في هذه الفقرة. فقد استخدم العرب فعل "يَسَّرَه له" لمعنى: أعدَّه لأمر ما، وفي الإعداد تأتي كافة التسهيلات التي تتطلبها هذه العملية؛ فمثلًا: يَسَّرَ الفرسَ للركوب، فمعناه أعدَّه بما يجب من السرج والزمام، ولكي يستعدَّ الفرس لاستعمال الراكب؛ قال الشاعر المخضرم الأعرج المعني: وقمتُ إليه باللجام ميسِّرًا هنالك يجزيني بما كنتُ أصنع [ 2] "إليه"؛ أي: إلى الفرس الذي كان مستعدًّا للركوب. وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: ويَسَّرَها لنا الميمونُ حتى لقيناها ببطنِ منًى تسير [3] وقال مسكين الدارمي: أقاسمهم للمال في القُلِّ والغِنى ويدفع عنهن السنين احتياليا فهذا لأيامِ الطراد وهذه للهوى وهذي يُسِّرتْ لارتحاليا [4] فهنا ذكر ثلاثة أشياء: الفرس يسَّره للحرب، والجارية يسَّرها للسلم، وأما الناقة فيسَّرها للسفر.
وجاءت ثالثًا بعد قصَّة نبيِّ الله لوطٍ عليه السلام مع قومه الذين ارتكبوا الفواحشَ والمنكَرات، ولم يستجيبوا لدعوة نبيِّهم ونُصحه، وبالغوا في المعصية المخالفة للفِطرة الإنسانيَّة السويَّة، فأرسل الله عليهم حجارةً من السماء، وأنجى لوطًا وأتباعه من المؤمنين. وهكذا تكرَّرت هذه الآيةُ في صيغة استفهام ﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]؟ وقُصد به الأمر؛ أي: ادَّكروا وتذكَّروا، أو قُصد به الحثُّ على التذكُّر؛ إذ إنَّ الله تعالى قد أودعَ في هذا الكتابِ العظيم المعجِز من المواعظ والعِبَر ما يجعله واضحًا ميسَّرًا لمَن أراد الاعتِبارَ والتدبُّر، وهو ميسَّر كذلك للحفظ في الصُّدور والعمل بالجوارح. وكانت الحكمةُ من تكرير الآية ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17] في أعقاب كلِّ قصَّةٍ من القصَص التي أشرنا إليها، وبهذه الصِّيغة الآمرة الحاثَّة، التنبيهَ على ضرورة التدبُّر في أنباء الغابرين من الأمَم، والاعتبار بمصير العاصين المكذِّبين منهم ؛ لأنَّ التخويفَ والوعظ متى تكرَّرا كان ذلك تأكيدًا يجعل الكلامَ أوقعَ في القلوب، وأردعَ للنفوس. تفسير: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر - مقال. والله تعالى أعلم. [1] كتبه: أ.