فكان الطَّعنُ فيهم طعنًا في المَنقولِ كلِّه، بل في الدِّين مِن أصلِه (١)! «حتَّى تصيرَ دِيانةُ المسلمين إلى ما صارَت إليه ديانةُ اليهود والنَّصارى المَطعونِ في كُتبِهم، ويَصيروا يَطعنُون دينَهم بأيْدِيهم! وليس لذلك مِن فائدةٍ سِوى شِفاء صدورِ أعداءِهم، حتَّى صاروا يقولون لنا: نحن وإيَّاكم في الهَوَى سَوَا! حديث لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة يمنية. » (٢). هذه -والله- الحقيقة المُرَّة الَّتي يَتكَشَّف عنها الزَّمان بين الفَينة والأخرى، يشهَدُ عليها مَن ذاقَ مَرارَتها، وعَلِمَ دَواخِل أصحابِها. (١) انظر «التنكيل» للمُعلِّمي (١/ ١٨١). (٢) «الدِّفاع عن الصَّحيحين دفاع عن الإسلام» للحجوي الفاسي (ص/١١٦) بتصرف يسير.
ولأنَّ كلَّ هذه السُّموم إنَّما تُساق في ثيابٍ مُزركشَةٍ، مِن مصطلحاتِ (المنهجيَّةِ) ، و (المَوضوعيَّة) ، و (التَّنوير) ، و (التَّفكيرِ العقليِّ) ، و (البحث العِلميِّ) ، مَصبوغٍ ذلك بخِطابٍ أخَّاذ؛ فلا يَعرِفُ أثَرَ هذه الزَّخارفِ الخدَّاعةِ إلَّا مَن ابتُليَ بشَرِّها، وصَلَى جمْرَتَها؛ والنَّاس إذا كانوا في طَراوةِ الصِّبا وأوائلِ الشَّباب، تَسْتَهوِيهِم مثلُ هذه الأضاليل، وتَتلاعبُ بهم تَلاعُبِ جاريةٍ حسناءَ بذِي صَبْوةٍ. وأحسبُ أنَّ كثيرًا مِن أبناءِ جيلي، قد وَقعوا في هذا المَهْوى السَّحيق. ص12 - كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين - مقدمة - المكتبة الشاملة. وكنتُ أجدُ -ولازلتُ- أكثرَ تلك الأصواتِ دَويًّا، وأشدَّها فتكًا وأذيَّةً، تلك الصَّارخة في وجهِ السُنَّةِ الشَّريفة، مُشكِّكةً في ما توارثته الأمَّة مِن أخبارها، مُزريةً بجهودِ المُحدِّثين فيما أُودِعَتْه من أسْفارها. وهذا أمر لا شكَّ جَلَل؛ فإنَّ تلك السُّنةَ وما تفتقِرُ إليه مِن معرفةِ أحوالِ رُواتها، ومَعرفةَ العربيَّة، وآثارَ الصَّحابةِ والتَّابعين في التَّفسير وغيره، وبيانَ معاني السُّنَن والأحكام وغيرها، والفقهَ نفسَه، إنَّما مَدارُ هذا كلِّه على النَّقلِ، ومَدارُ النَّقلِ على ما ارتضاه أولئك المُحدِّثون وأضرابُهم مِن مناهجَ في الرَّوايةِ والنَّقدِ والتَّوثيق.
وما تحرير معنى الفلاح؟! القائل بمثل هذا التأويل مفتون لا ريب.
ولهذا فإن كثيرا من الناس يغتر الآن عندما يرى امرأة موفقة أو ناجحة في إدارتها لولاية عامة، (مع كون معيار الحكم على التوفيق والنجاح في حد ذاته خاضعا للأخذ والرد) يقول "هذه أفضل من مئة رجل"، ونقول له نحن لم نزعم أنه لا توجد من بين النساء من يمكنها أن تبلي بلاءا حسنا - في بعض أحوالها أو حتى فيما يغلب عليها من أحوال - في بعض الولايات العامة، ولكن النادر لا حكم له، والعبرة بالغلبة.. وخروج بعض أفراد العام من العموم لا ينفي ذلك العموم.. حديث لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة تصغرني بـ 30. فالنساء أصلا ما خلقن من أجل هذا! فإن رأينا رجلا يدخن السيجارة أربعين سنة متواصلة ولا يصاب بسرطان في الرئة - مثلا - لا نقول إن هذا دليل على بطلان قاعدة أن التدخين يسبب سرطان الرئة! فالحاصل أنه عندما يأتينا نص يفيد أنه لا يفلح من يولون أمورهم امرأة (هكذا بعموم)، ونص آخر يفيد أن امرأة بعينها كانت سديدة الرأي في حكم حكمته أو مقالة قالتها، (ولم ينص على أن قومها أفلحوا، فتأمل) فإن تلك المرأة قد تكون في هذه الواقعة المروية على حال خارجة عن ذلك العموم، بل وخارجة عما يغلب عليها هي نفسها من أحوال.. وكذلك فإن الحديث ينص على أن الذين يولون أمورهم امرأة لا يفلحون على اعتبار أنهم يضيعون الأمانة بذلك ولا يحسنون تقدير الأمور، إذ يوسدون الولايات العامة لمن ليست لهم وما خلقوا من أجلها!
فتأمل دقة لفظ الحديث إذ لم يقل: لن يفلح قوم تحكمهم امرأة، أو "تسلطت عليهم امرأة" ولكن قال لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.. فهذا يدل على أن مجرد تولية أهل الحل والعقد منهم امرأة عليهم باختيارهم وجعلهم إياها على رأس البلاد = هو في حد ذاته من عدم فلاحهم!
بعضُ الكتَّابِ يستدلون بأشياء متشابهة، ولا يجمعون أطراف الأدلة في المسألة الواحدة، كما كان يفعل أهل البدع كالمرجئة، حيث اعتمدوا على نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد، وكالخوارج حيث عملوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، ووفَّق الله أهل السنة أن جمعوا بين نصوص الوعد والوعيد وتوسطوا وهذه سِمَتُهُم، فهؤلاء الكتَّاب تجدهم يتشبثون ببعض المتشابه من النصوص، ويتركون المحْكَم.