ففي المرَّة الأولى يسلِّط الله عليهم من يهزمُهم، ويقهرُهم، ويذلُّهم، دون أن يزيلَهم من بلادهم، ويستأصل شأفتهم. وفي المرة الثانية يسلِّط الله عليهم من يدمِّر مملكتهم، ثم يطردُهم من فلسطين كلِّها، ويشرِّدُهم في الأرض، ويمزِّقهم فيها. وتحدثت تلك النبوءة أيضاً عن مستقبل بني إسرائيل ومصيرهم، بعد أن يُطردوا من فلسطين، فأخبرت أنهم إن حاولوا الرجوعَ في الزمان القابل إلى هذه الأرض التي طُردوا منها فسوف يسلِّط الله عليهم من يُذلهم من جديد، ويُخزيهم، ويطردهم مرَّة أخرى من هذه الأرض المباركة: { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]. تفسير: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن...} - محمد الحسن الددو الشنقيطي - طريق الإسلام. وفي سرده لما بيَّنته تلك النبوءة - في شطرها الأول - والتي ذكرها القرآنُ الكريم أيضاً، تكلَّم المصنف على طبائع اليهود، وما انطوَت عليه أخلاقُهم من فسق، وإفسادٍ في الأرض، وسفكٍ للدم الطاهر، وارتداد عن الدين، واستكبارٍ في الأرض بغير الحق، وما سوَّلت لهم أنفسهم الخبيثةُ بأنهم شعب الله المختار، وما نالهم من عقاب الله الأليم، في تينك المرتين، وما توعَّدهم به الله تعالى حال عودتهم. وأرجأ الأستاذ محمد علي دولة كلامه على شطر النبوءة الثاني، والمتمثِّل في وعيد الجبار جلَّ جلالُه: { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} إلى كتاب آخر، سيصدرُ قريباً كما قال، ليقف القارئ من خلال هذه الكتابات على ديدن القوم، فنسأل الله أن يقرَّ أعيننا بتحقيق ما وعدَنا، وأن يجعلَ لنا في مثل هذه الكتابات الرَّصينة سلوى وبُشرى تشحذ نفوسنا المتلهِّفة لنصره العزيز.
وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا ، وهو حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث! والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب. لتفسدن في الأرض مرتين بالشهر. وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا ، ونحن في غُنْيَة عنها ، ولله الحمد ، وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم ، وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بَيْضَتَهم ، وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم ، وقهرهم ، جزاء وفاقًا ، وما ربك بظلام للعبيد ؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر " بُختنَصَّر " على الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا ، فسألهم: ما هذا الدم ؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم ، فسكن.
فَفَسَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهٍِ كَلامٌ طَوِيلٌ وخِلافٌ كَبِيرٌ بَينَ العُلَمَاءِ في ذلكَ، وأَقرَبُ الأَقوَالِ: أَنَّهُم أَفسَدُوا أولاً بِقَتْلِ سَيِّدِنَا زَكَرِيَّا عَلَيهِ السَّلامُ، فَأَرسَلَ اللهُ إِلَيهِم غُزَاةً من فَارِسَ فَعَذَّبُوهُم وأَسَرُوا مِنهُم كَثِيرَاً، ولمَّا تَابُوا خَلَّصَهُمُ اللهُ من الأَسْرِ، وأَمَدَّهُم بِالنَّعِيمٍ والقُوَّةِ، مُحَذِّرَاً لَهُم من العَودَةِ إلى الإِفْسَادِ. فَأَفسَدُوا مَرَّةً ثَانِيَةً بِقَتْلِ نَبِيِّ اللهِ يَحيَى بنِ زَكَرِيَّا عَلَيهِمَا السَّلامُ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيهِم من انْتَقَمَ مِنهُم. وبناء على ذلك: فالإِفْسَادُ مِنهُم حَصَلَ قَبلَ ظُهُورِ الإِسْلامِ، في المُدَّةِ الأُولَى قَبلَ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ، والثَّانِيَةُ بَعدَ بِعْثَةِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ. لتفسدن في الأرض مرتين. وقَوْلُهُ تعالى: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَينِ﴾. لا يَقتَضِي الحَصْرَ، فالإِفْسَادُ سَيَحْصُلُ مِنهُم بَعدَ المَرَّتَينِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾. وهذا يُفِيدُ بِأَنَّهُ إذا أَفْسَدُوا فَسَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيهِم مَن يَنْتَقِمُ مِنهُ من عِبَادِ اللهِ تعالى أُولِي البَأْسِ الشَّدِيدِ، وأَسأَلُ اللهَ تعالى أن يُعَجِّلَ بالانْتِقَامِ مِنهُم عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ.