بعد ذلك، اشتدّ عوده فغدا بحراً متلاطماً بأمواج المعرفة من كل المشارب. درس الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وفقه اللّغة وعُلوم الشّريعة والأخلاق والعلوم الطبيعية والرياضيات والنباتات، حتى اكتملت آلته المَعرفية غصباً. فصار، بدون منازع، أحد أكثر الموسُوعيين في التّراث العربي الإسلامي. تفرد بقولِه بأنّ المعرفة طبائع، وهي مع ذلك معرفة العباد على الحقيقة. كان يعتبر البلاغة هي الإيجاز والاختصار ومجمل القول. جعل من اللغة أداة طيّعة بين أنامله. يشهدُ النّقاد أنّ اللغة العربية لم تعرف من يمسك بناصيتها، كما فعل الجاحظ. اقوال واقتباسات الجاحظ | موسوعة أخضر للكتب. حين يكتبُ، تجدُ لغتَه عالمة ورفيعة وتتسم بالجزالة والقوة والغنى بالمرادفات والمفردات. كان ذاك سببا كافيا أن يلقّبه البعضُ بـ "الرّسام بالكلمات". يقول الجاحظ في "البيان والتبيين": المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير. معنى ذلك أنّ اللفظ والمبنى وشاعرية البنيات اللغوية هي ما يخدم المعاني، التي هي متاحة للجميع، بينما صقلها لغوياً، عن طريق اللفظ، هو ما يجعل منها صورةً مكتملة.
بل إنّ هناك من يذهبُ إلى كون الجاحظ تفقّه في العلم والتفلسف، لكسب احترامٍ تفرضهُ قوّة المعرفة، ولأنه يأبى أن يرزح تحت "عقدة نقصه" أو "نقطة ضعفه"، دافعاً بالمثل القائل " كلّ ذي عاهة جبّار" إلى الأقاصي. يرى بعض النّقاد أن السّخرية طبيعةٌ فُطِرَ عليها الجاحظ في الكتابة للتّفريج على القارئ؛ إذ تعتبر بعض كتبه بمثابة لوحات تزخرُ بالنّقد والدّعابة والتّفكّه والنّكتة للنّكتة. من هو الجاحظ الثاني. في كتاب "البخلاء" مثلاً، يصوّر الجاحظ قاسم الثمار، بسخرية قائلاً: "وكان قاسم شديد الأكل، شديد الخبط، قذر المؤاكلة. وكان أسخى الناس على طعام غيره، وأبخل الناس على طعام نفسه". … في السّنوات الأخيرة من حياته، أصيب الجاحظ بالفالج، فكان "يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قُرض بالمقاريض ما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي". [4] لكن… أتدري ما الأكثر غرابة في كل حكاية الجاحظ هذه؟ في سنة 869م، الموافقة لـ255 هـ في البصرة… في "المشهد"، رجل كهلٌ في التسعينات من عمره، يقف أمام رفوف مكتبته، يبذل قصارى الجهود للحصول على أحد الكتب، في اليد الأخرى يتكئ على عصاهُ ليستوي ويستند عليها كي يمسك الكتاب.
وأنا وإن كان الطعام طعامي، فإني كذلك أفعل، فإذا رأيتم فعلي يخالف قولي فلا طاعة لي عليكم.