فهذا الحديث يدل على أن الله تعالى يمهل العبد هذه المدة بعد ما يرتكب ذنباً لعله يستعتب ويستغفر ويعمل عملاً صالحاً يمحو الله به عنه سيئاته كما قال سبحانه وتعالى في كتابه: "إن الحسنات يذهبن السيئات". سورة هود. وأما سؤالك هل الاستغفار تمحى به الذنوب فالجواب: نعم إذا صاحب ذلك توبة نصوحاً وعملاً صالحاً ورد المظالم إلى أهلها. قال تعالى: " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً "وقال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم. الحسنات يذهبن السيئات في القرآن الكريم. " فهذا شامل لكل الذنوب فمن تاب من شيء منها واستغفر وأصلح عفا الله عنه ما سلف وتاب عليه. وأما ذلك الشخص الذي لا يستطيع أن يمسك لسانه عمن أساء إليه فنقول له إن الأفضل لك أن تعفو عنه وتصفح. وإن كنت ستأخذ حقك فلا تحملنك إساءته إليك وظلمة لك على أن تظلمه. قال تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمة فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور" سورة الشورى. هذا والله أعلم
ومعنى الآية ـ التي تضمنت هذه القاعدة باختصار ـ: أن الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو خطاب للأمة كلها ـ بأن يقيموا الصلاة طرفي النهار، وساعاتٍ من الليل، ينصب فيها قدميه لله تعالى، ثم ذكر علّلَ هذا الأمر فقال: {إن الحسنات يذهبن السيئات} أي يمحونها ويكفرنها حتى كأنها لم تكن ـ على تفصيل سيأتي بعد قليل إن شاء الله ـ والإشارة بقوله: {ذلك ذكرى للذاكرين} إلى قوله: {فاستقم كما أمرت} وما بعده، وقيل: إلى القرآن، ذكرى للذاكرين: أي موعظة للمتعظين(1). أيها القراء الأفاضل: وكما أن هذه القاعدة صرحت بهذا المعنى، وهو إذهاب الحسنات للسيئات، فقد جاء في السنة ما يوافق هذا اللفظ تقريباً، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنّه(2) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(3). أيها الإخوة المؤمنون: إذا تبين معنى هذه القاعدة بإجمال، فليعلم أن إذهاب السيّئات يشمل أمرين: 1 ـ إذهاب وقوعها، وحبها في النفس، وكرهها، بحيث يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها.
فدلَّ هذا الحديث على أنَّ الحسنات والسيِّئات تُوزن وتَجري المقاصَّة بينهما.
الوقفة الرابعة: أثر الرفق في معالجة الأخطاء، واللين في إسداء النصيحة، فرسول الهدى ما عاتب وزجر، ولا عبس وبسر حين سمع الخبر، وإنما ترفَّق وتأنى، ووجه ونصح بكلمات ملؤها العطف والرحمة، فكان لهذه الكلمات أثرها، وهكذا الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وفي محكم التنزيل: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]. الوقفة الخامسة: وفي ندم الصحابي وأسفه دليل على أهمية استصلاح القلوب وملئها بالإيمان وغرسها بالتقوى، فهذه القلوب لو لم تكن عامرة بالإيمان لما ظهر عليها هذا التأسف والندم، ولو كانت القلوب خربة خاوية من الإيمان لما تأثرت واضطربت، فالقلوب المريضة والميتة مطبوع عليها لا يسري إليها ندم، ولا يؤثر فيها تذكر. فما أجمل أن يربي العبد نفسه وقلبه بالأعمال الصالحات ليله ونهاره، حتى إذا ألمّت النفس بشيء من الخطأ والتقصير كانت أعمال الرخاء رصيدًا له ومنذرًا يحيي قلبه. الوقفة السادسة: أن هذا الذنب من الصحابي بقي في حدود اللمم؛ إذ لم يترتب عليه حد ولا وعيد، ومع ذلك لم يستصغر الصحابي ذنبه، ولم يهون من شأنه، بل بلغ من أسفه وأساه أن يبوح بسره للنبي -صلى الله عليه وسلم-.