ثانيا: لا ينقضي العجب من هذا المسلك الذي سلكه الكاتب المذكور في الاستدلال ، فإنه اقتصر على ذكر مطلب واحد من مطالب الكفار ، فأوهم أن الجواب القرآني: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) منصب على هذا المطلب ، وهو الرقي في السماء ، وأن هذا يدل على عدم إمكانه.
أي في صورة من كنّ في حداثة السنّ والشباب ، وفي صفة من لم يتزوّج وهي على المرحلة الاولى من العيشة. { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]. أي في ابتداء النهار وانتهائها. { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]. أي بسبب الورود في ابتداء النهار للشروع في العيشة. وسبحوه بكرة وأصيلا. وقدّم العشىّ على خلاف الجريان الطبيعي: فانّ ورود ظلمة الليل يوجب ترك الاشتغالات الدنيويّة ، وفي هذه الساعات فراغة كاملة للحمد والتسبيح والتوجّه الى اللّه المتعال ، ولا يخفى أنّ ورود الليل أيضا من أعظم النعم الالهيّة حتّى تحصل الاستراحة ويرتفع التعب والضعف. ومثلها في الاشارة الى مورد الاقتضاء للتسبيح والحمد. { وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]. فانّ تقديم العشىّ من جهة وجود الاقتضاء فيها للتسبيح والحمد كثيرا بسبب حصول الفراغة. فظهر أنّ تفسير البكرة بأوّل الصبح ، والإبكار بالبكرة ، والبكر بالمرأة التي كانت باكرة عرفا في مقابل الثيّب: غير وجيه. _________________ - الإشتقاق - لأبن دريد ، طبع مصر ، ١٧٧٨ هـ. - صحا = صحاح اللغة للجوهري ، طبع ايران ، ١٢٧٠ هـ.
وقال ابن جنّى: الأبنية الثلاثة بمعنى الإسراع أي وقت كان. والبكر: خلاف الثيّب رجلا كان أو امرأة ، وهو الّذى لم يتزوّج. والبكر الفتى من الإبل ، وبه كنّى. ومنه ابو بكر الصدّيق. مقا- بكر: أصل واحد ، يرجع اليه فرعان هما منه. فالأوّل- أوّل الشيء وبدؤه ، والثاني مشتقّ منه ، والثالث تشبيه. فالأوّل- البكرة وهي الغداة ، والجمع البكر. والتبكير والبكور والابتكار: المضي في ذلك الوقت. والإبكار: البكرة ، كما أنّ الإصباح اسم الصبح. وباكرت الشيء إذا بكرت عليه. وبكرت الشجرة وأبكرت وبكّرت تبكّر تبكيرا وبكرت بكورا: إذا عجّلت بالإثمار والينع. فهذا الأصل الأوّل ، وما بعده مشتقّ منه. فمنه البكر من الإبل. والبكر من النساء التي لم تمسس قطّ. والبكر من كلّ أمر أوّله. وأمّا الثالث فالبكرة التي يستقى عليها. و التحقيق أنّ الّذى يظهر من كلمات القوم واستعمالاتهم ، أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة: هو الكون في المرحلة الأولى من برنامج أو جريان أمر ، سواء كان هذا الجريان منتسبا الى انسان أو حيوان أو نبات أو جماد أو زمان ، أو غيرها. فالبكر كالملح صفة مشبهة وهو من ثبت له هذا المفهوم ، يقال امرأة بكر ، ابل بكر وشجرة بكر وزمان بكر.